في هذه السلسلة المتتابعة من المقالات سيتم تناول العديد من المفاهيم الفكرية لغرض القاء الضوء عليها من مختلف الزوايا ووجهات النظر ، نهدف من ذلك فائدة الباحث والطالب والقارئ الشغوف بالمعرفة، عسى ان نوفق في هذا المنحى بقدر المستطاع .
المفهوم الاول- علم الجمال
الاستطيقا, علم الجمال (aesthetics): كان هذا العلم أحد فروع الفلسفة وبحث في فلسفة الجمال متمثلاً في الفن, و القيم الفنية التي تحكم التعبير الفني و تثير في الأفراد الإحساس بالجمال. وانقسم الفلاسفة فيه الى اتجاهين: أحدهما يجعل الجمال موضوعياً كائناً في الشيء الجميل نفسه, و الآخر يجعله مرهوناً بالإدراك الذاتي عند الشخص المدرك.
اتجاهات علم الجمال :
إن تعدد الآراء والمذاهب الفلسفية أوجب تصنيف هذه الرؤى الجمالية، لأن البعض لاحظوا استحالة وجود قاعدة عامة تحدد بواسطتها المقاييس لما هو جميل وإن من العبث إيجاد مبدأ ذوقي يعطينا مقياساً عاماً للجمال لأن ما نحاول إيجاده مستحيل ومتناقض لذاته والبعض الآخر حدد بعض المقاييس للجمال.
فلاحظ هيوم أن الجمال في انتظام الأجزاء وتفاعلها على نحو يجعل الجميل يبعث الروح والسرور في نفس المتلقي وإن اللذة والألم لا يصحبان بصورة لازمة الجمال والقبح وحسب بل إنهما يؤلفان ذات الجمال والقبح.
لذلك فإن موضوع الجمال وطبيعته آثار خلاف المفكرين الذين انقسموا إلى أتجاهين:
1 ـ الاتجاه الذاتي: وسموا بأنصار المذهب الذاتي لعلم الجمال.
2 ـ الاتجاه الموضوعي: وسموا بأنصار المذهب الموضوعي لعلم الجمال.
1 ـ الاتجاه الذاتي: كان من أبرز رواده كانط الذي اعتبر أن الحكم على الجمال حكم ذاتي ويتغير من شخص لآخر معتبراً مصدر الشعور بالجمال هو فينا، في مزاج الروح وليس في الطبيعة وإن جمال الشيء لا علاقة له بطبيعة الشيء وإن المحاكمة الجمالية تنبع من الاندماج الحر للفكر وقوة الخيال. وبفضل هارمونية قدرات المعرفة ننسب الموضوع إلى الذات وفيها يكمن أساس الشعور بالرضى الذي نحسه من الأشياء التي هي سبب إعجابنا. فأنصار هذا المذهب ينكرون الجمال المستقل للأشياء وللطبيعة ويعتقدون أن الجمال الوحيد ( لا يوجد إلا فينا وبنا ومن أجلنا ) ويرجعون جمال الأشياء إلى الطريقة التي نتصورها في فكرنا ، فالجمال ليس سوى ظاهرة نفسية ذاتية وإن الشيء يكون جميلاً عندما نراه بعين احترفت الرؤية.
ومن علماء هذا الاتجاه :
ـ هيغل ( إن الجمال فى الطبيعة لا يظهر إلا كانعكاس للجمال الذهني ) .
ـ فيكتور باش ( إننا حين نتأمل الأشياء نطفي عليها روحاً من صميم حياتنا وإننا لا نستجمل العالم وكائناته إلا بمقدار ما في نفسنا من جمال).
2 ـ الاتجاه الموضوعي:
أنصار هذا المذهب قاموا بنقض جميع آراء الذاتيين لأنها لا تتعلق مع ا لمبادئ الأفلاطونية للجمال حسب وجهة نظرهم فالذاتيين أهملوا وجود العنصر أو العامل الموضوعي الذي هو موجود في جميع الأشياء الجميلة ومشترك بينها ويظل موجوداً ومشتركاً سواء كان هناك من يقدر هذه الأشياء أو لم يكن يقدر. حيث يعتبر أنصار هذا المذهب أن الجمال مستقل قائم بحد ذاته وموجود خارج النفس وهي ظاهرة موضوعية مما يؤكد تحرر مفهوم الجمال من التأثر بالمزاج الشخصي وأن للأشياء الجميلة خصوصيات مستقلة كلياً عن العقل الذي يدركها، فالجميل جميل سواء توفر من يتذوق هذا الجمال أو لم يوجد.
ومن علماء هذا الاتجاه :
ـ ديموقراط ( للجمال أساساً موضوعياً في العالم ) .
ـ غوته ( للإبداع الفني قوانين موضوعية ).
يلاحظ إن هذا التنوع وكثرة الآراء الجمالية تعطي لعلم الجمال القوة الجدلية للاستمرار وتعطيها القوة للتغلغل في صلب نسيجنا الاجتماعي ، فعلم الجمال يقوم بتحضير إنسان المستقبل ، وإن علم الجمال هو الذي يؤكد وسيؤكد انتصار الإنسان بآثاره الفنية الخالدة على الفناء والعدم والقبح. والواقع إن تفسير الفن ظل بوجه التقريب يمثل إلى الآن في ربطه بسائر الوظائف الحيادية جمالياً إما لدى الفرد وإما لدى المجتمع فالفن شكل من أشكال نشاط الإنسان في سبيل المعرفة ، معطياً إياه القدرة على التغيير.
أن لكل إنسان رؤية وردود فعل حول الجمال كمفهوم، والجمال كانطباع تجاه أشياء مادية وروحية مختلفة يتذوق جمالها عقلياً، تترك في نفسه إحساساً بالبهجة والارتباك والنشوى والدهشة. فهو المقياس، الذي يحدد جمال المادة، التي تترك لدى المتلقي، الانطباع والإحساس بالبهجة، سواء كان عن طريق التأمل العقلي أو السمع أو النظر أو التذوق.ولكي يكون لدى كل إنسان إحساساً جمالياً راقياً، يتطلّب تربية للذوق الفني والجمالي لدى الإنسان
أما في تعريف علم الجمال معجميا، نجد أن تعريف قاموس "ويبستر" لعلم الجمال هو أكثر دقة من بعض التعاريف الأخرى، وهو " المجال الذي يتعامل مع وصف الظواهر الفنية والخبرة الجمالية وتفسيرها". لكن المفهوم المفضل عن مصطلح علم الجمال هو ذلك المفهوم المستنبط من نظرية الفيلسوف "بيردسلي" والذي يرى أن علم جمال هو علم بيني تقوم من خلاله فروع معرفية عدة- كل بطريقته ومناهجه ومفاهيمه الخاصة - بدراسة تلك المنطقة المشتركة المتعلقة بالخبرة أو الاستجابة الجمالية، بكل ما تشتمل عليه هذه الخبرة أو الاستجابة من جوانب حسية وادراكية وانفعالية ومعرفية واجتماعية.
لابد قبل الخوض في ماهية علم الجمال والجمال والفن، أن نعرج على الإنسان الذي يعتبر المركز الأوحد للإحساس بالجمال والمدرك الوحيد له. كان الناس منذ بدء الخليقة يرهقون التفكير على الدوام بمعضلة ماذا يعني أن يكون الكائن الحي إنساناً وفيما يتمثل مغزى وجوده على الأرض. إن الإنسان كما عرفه الإغريق أنه أعجب العجائب وهو مركز الكون مما دفع علماء الاجتماع للوصول إلى صيغة جامعة تعرف الإنسان وتميزه عن باقي الكائنات الحية. وحددت علاقات ثلاث في تعريف الإنسان وإن الكائن البشري إذا فقد إحدى هذه العلاقات يخرج عن كونه إنساناً ذو قيمة ولا يمكن أن يخطو خطوات جادة في تعظيم الإرث البشري الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الجمالي وهذه العلاقات هي :
العلاقة المعرفية أي ( المنطق ـ الحق ).
العلاقة الأخلاقية أي ( الخير ) .
والعلاقة الجمالية ( الجمال).
يتسم الإنسان للوهلة الأولى بنفس الاحتياجات التي تلازم أي كائن حي آخر، فهو ملزم بأن يأكل ويشرب ويحمي نفسه من البرد والحر ومن هجمات الأعداء وأن يحافظ على نسله، غير إنه يلبي هذه الاحتياجات بطريقة تختلف عن سلوك الحيوان. أما الحيوان فمهما قام من أفعال معقدة تشبه للوهلة الأولى أفعال الإنسان يبقى على الدوام خاضعاً لتأثير احتياجاته البيولوجية المباشرة. فالشيء الذي لا يمس أسس نشاط الحيوان ا لحياتية يبقى وكأنه غير موجود بالنسبة له. فإن الكائنات الحية غير الإنسان ليس من سجاياها معرفة العالم بحد ذاته أي ( العلاقة المعرفية ) والتمتع بجمال العالم وشموخ الجبال وبصفاء السماء وخضرة الغابات ونقاء الأنهار ، لا يشكل أي شيء ذو قيمة بالنسبة للحيوان لهذا فهو لا يكترث بالعلاقة الجمالية. وليس من سجايا الحيوان أيضاً القدرة على أن يضع نفسه في محل سواه أي أن يضحي بنفسه وينكر ذاته من أجل باق
المزيد