أصبحت الرشوة أمرا مألوفا في مجتمعنا ولم تعد سرية كما كان في السابق عندما يقدم الراشي على تقديم مبلغ مقابل خدمة معينة للمرتشي ، بل أصبحنا نرى هذه المشاهد كل يوم تحت غطاء أسماء مبتذلة من قبيل " قهيوة " ، " الحلاوة " ... لا يتعلق الأمر في الإدارات العمومية أو الخاصة بل تجاوزنا الأمور إلى الشارع وأمام الملأ ، فقدنا كل حياء وكل اعتقاد إيماني لمفهوم الواجب ، أوشكنا أن نجد لافتة على جدران الإدارات العمومية : " إذا أردت أية خدمات ، انظر جدول المبالغ المالية " ، لهذا ليس من الغريب أن نجد بلدنا يتبوأ مكانة مرموقة ضمن الدول التي تعرف انتشار هذه الظاهرة فهو لا يبرح الرتبة 72 من أصل 163 دولة ، ويبقى هذا التصنيف نسبيا لأنه لا يتم التبليغ عن جميع قضايا الرشوة ، كما أن المواطن أصبح يعاين بكل وضوح مشاهد تقديم الرشوة مما يجعلنا نطرح تساؤلات عمن يتحمل المسؤولية وعن أية مواطنة نريد تحقيقها ؟ وعن مفهومي الحق والواجب ؟
أولا، لنقف وقفة تأملية عن قضية قناص تاركيست الذي قام بفضح رشوة بعض رجال الدرك الملكي ، لم تكن لتقم القيامة لو لم ينشر الشريط عبر شبكة الأنترنيت في موقع يوتوب ، لسنا في حاجة إلى تأكيد الصورة للوصول إلى نتيجة تفشي الرشوة ، أظن أن أغلبية المواطنين عايش عن قرب أو بعد وضعية تعطيل المصالح أو الوثائق الإدارية أو مخالفة أو شبه مخالفة سير ... علاقة الراشي بالمرتشي هي علاقة مواطن بمواطن ، أو لنقل شبه مواطن بشبه مواطن ، نحن بعيدون كل البعد عن مفهوم المواطنة ، وقضية تاركيست ما هي في الحقيقة إلا نموذج بسيط لمفهوم الرشوة ، كما أن الدرك الملكي قد يتساءل عن الأجر الهزيل والعمل في ظروف صعبة مع عدم تقنين المدة الزمنية للعمل ، لكن السؤال المهم : أين يتموقع المواطن الموظف بين بينية الحق والواجب ؟ ولو سلمنا فرضا بإيمان الموظف بمفهوم وقدسية الواجب المهني ، فكيف سنجيب عن حالات المحسوبية والزبونية وإجراء اتصال هاتفي بأحد المسؤولين (الكبار ) لتقزيم دركي يؤمن بقدسية الواجب ؟ ألا يحتمل أن كان أحد دركيي قضية تاركيست مواطنا كما تحمل المواطنة من دلالات ؟ كيف نسمي بعض المقدمين الذين يتحدثون علنا أمام الملأ وبكل وقاحة عن استحالة توقيعهم لوثيقة إدارية إلا بتقديم "الحلاوة " ؟ كم من مقطع فيديو سيتم تسجيله خلسة كل يوم أمام الإدارات ومع المقدمين و شرطيي المرور وأمام المستشفيات ؟ هل سيبقى المغرب في نفس الترتيب إذا ماطرحت أمام القضايا والمحاكم ؟ كيف نفسر امتلاك بعض المقدمين و بعض رجال الشرطة لمنزل دون قروض مع سيارة ومبلغ مالي محترم بأجر متواضع وفي زمن قياسي ؟
غالبا ما يتم اعتبار ( المواطن ) الراشي ضحية ويجد ألف تبرير لتقديم الرشوة ؟ لكن الحقيقة أن الراشي والمرتشي يشتركان في عقدة " يجب أن أكون الأول " الأول المتميز في قضاء المصالح والأول في تحسين الوضع المادي ، كلاهما لايطيق الانتظار ، ومن ثمة نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لعنة الله على الراشي والمرتشي " واللعنة تعني الغضب والطرد من رحمة الله .
وفي محاولة لرصد القضايا المتعلقة بالرشوة نشأت مراصد وجمعيات ومنظمات مغربية ، نذكر على سبيل المثال منظمة ترانسبرانتي التي قامت بدراسة حول الظاهرة من خلال 400 مقاولة مغربية منها 7 في المائة من الدارالبيضاء ، وقد أقرت 81 من المقاولات تعاملها بالرشوة ولو مرة واحدة لشرطة المرور كما عبر أرباب المقاولات أن سبب معاناتهم بنسبة 99 في المائة تأتي من شرطة المرور والشيوخ والمقدمين بنسبة 97 في المائة وزارة النقل ب 96 في المائة والإدارات المحلية بنسبة 32 في المائة والقضاء بنسبة 86 في المائة والمكلفون بالضرائب بنسبة 82 في المائة . وبالنسبة لأرباب الأسر فإن المقدمين والشيوخ يأتون في أعلى الترتيب بنسبة 86 في المائة والإدارات المحلية ب76 في المائة والجمارك بنسبة 75 في المائة والقضاء بنسبة 69 في المائة . كما أنشىء المرصد الوطني للرشوة سنة 2001 بهدف توفير قاعدة المعلومات حول الظاهرة ، لكن الملاحظ في قراءة الدراسة التي أجريت غياب ذكر التعامل بالرشوة في بعض القطاعات الحيوية كالصحة مثلا والمواطن يعرف المعاناة لتجاهل بعض المسؤولين تقديم العون للمرضى إلا في حالة تقديم الحلاوة أو " الحق " .
لقد أصبحت الرشوة مكسبا أو أجرا إضافيا من طرف المرتشي ، وباتت أمرا مألوفا لقضاء المصالح بالنسبة للراشي ، وحلا لاقتصاد الدولة حتى لاتطالب بالزيادة في الأجور بالنسبة لموظفي وزارة الداخلية والقضاء المحرومين من الانتماء النقابي ، كما أن معالجة الظاهرة لاترقى إلى المعالجة الشمولية والحديث بكل جرأة سواء بالنسبة للعامة أو الصحافة بأنواعها ، وإلى حين تحقق المستحيل، سنتساءل عن المواطنة وعن نزاهة الانتخابات وعن دمقرطة الحقوق عوض الزبونية والمحسوبية